//// منقول ////
شاب سعودي في العشرينات من العمر، حين تتحدث إليه فإنه يجبرك على مواصلة الحديث بفن إصغاءه و لباقة مقاطعته، و حين يتحدث إليك يجبرك على الاستماع إليه لتعدد ثقافاته و لطريقة سرده المميزة و المشوقة.
و ما أن تمعن النظر في عينيه حتى تجد أسراراً و حكايات تخفيها ملامح يتراءا لك أنها ملامح السعادة و السرور.
استمعت إلى قصته من أحد المقربين، و للتأكد من تفاصيلها و الوقوف عليها التقيته شخصياً، و بعد محاولات وافق على نشر قصته و لكنه رفض و بشكل قاطع أن نذكر فيها اسمه و نحن هنا نقف عند رغبته و نحققها له.
تبدأ القصة عندما كان الفتي في العشرين من العمر، و رغب كبقية الشباب في هذا العمر في أن تكون له زوجة و يبدأ معها رحلة الحياة لبناء أسرة ...
و بعد مشاورات مع أسرته، كالتي تحدث في أغلب البيوت، وقع الاختيار على أحد القريبات و التي تبين فيما بعد أنها تكن له شيئاً من المودة، كونه كما روى عنه أغلب المقربين له و من عروه أنه شاب مميز بين أقرانه و على خلق عالٍ جداً.
سارت الأمور في الروتين المتعارف عليه، و في يوم عقد القران – طبعاً عقد القران هنا يسبق حفل الزواج – و بينما كان بطل قصتنا ينتظر في مجلس والد العروس قدوم الشيخ لعقد القران،
إذا به يفاجأ بوالد العروس ينقل إليه خبراً كاد أن يقتله و هو الذي كان مذ لحظات في قمة نشوته و سعادته.
لقد تعرضت العروس إلى حادث تصادم شنيع بينما كان أخوها يقلها من صالون التجميل إلى المنزل نقلت على الفور إلى غرفة العناية.
غادر الشاب المنزل و هو في حالة شرود و تيه كان عقله يرفض تصديق ما سمعته أذناه، لم يتمكن من استيعاب الموقف و لم تسعفه قوة أعصابه للتعامل مع الحدث كما يجب.
و ما هي إلا ساعات لم تتجاوز اليوم، و خبر وفاة عروسه ينقل إليه، و هو لم يفق بعد من صدمة الحادث الذي وقع لها، فكانت بمثابة الطعنة القاتلة التي توجه لمن هو غارق في نزف جراحه من آثار الطعنة الأولى.
مرت به الأيام ثقيلة و ذكرى فتاته لا تفارق مخيلته، و بمساعدة من الأهل و المقربين تمكن من التعايش مع الوضع و عاد شيئاً فشيئاً إلى الحياة الطبيعية.
مرت ثلاث سنوات على الحدث و نجح بعض الشيء في عملية التناسي التي وصفت له من قبل من أشفقوا على حاله.
و في يوم كان في أحد البلاد المجاورة، صادف في طريقه أن التقى عائلة (خليجية) كانوا بحاجة إلى من يدلهم الطريق فقام بإرشادهم إلى هدفهم، و من ثم غادر إلى وجهته.
شاءت قدرة الله سبحانه و تعالى أن يلتقي هذه العائلة مجدداً في اليوم التالي، حينها أصر رب الأسرة على دعوته فقبل ذلك بعد إلحاح شديد.
و في المنزل الذي سكنته العائلة هناك كان بطلنا يجلس مع رب العائلة في أحد ألأركان، و لكن حين جاء وقت العشاء، اجتمع جميع أفراد الأسرة على المائدة و كان الضيف معهم، حيث لم تكن تلك الأسرة الخليجية شديدة التحفظ.
و كانت ابنتهم تجلس مقابل الضيف، و تبادل الاثنين نظرات إعجاب، و بعد العشاء غادر الضيف بعد أن أخذ منه رب الأسرة وعداً بمعاودة زيارتهم.
و مرت الأيام و أصبح ضيفنا الذي سنرمز له هنا باسم خالد، لتسهيل عملية السرد على القارئ الكريم، أصبح محبوباً من الأسرة كلها و بالأخص من قبل الفتاة، و لم تكن وحدها التي تكن له المودة فقد بادلها إعجاباً أيضاً.
و مع الأيام عرف خالد قصة خلود (ابنة الأسرة التي تعرف إليها) و أنها زوجت لرجل كبير في السن، توفى بعد زواجهم بسنة، و عاشت أرملة ما يقارب الثلاث سنوات، أي نفس الفترة التي عاشها هو بعد وفاة زوجته.
أحب الاثنين بعضهما و أتت فكرة الزواج كمحطة تالية بعد المحبة، تقدم لخطبتها و لم يجد أي معارضه من أهلها، و تمت الخطبة و بدء الإعداد للزفاف. لقد أقدم على الزواج منها بالرغم من أنها أرملة، الفكرة التي رفضها أهله في بداية الأمر و لكنهم وقفوا عند رغبة ولدهم في النهاية، فخوفهم من أن يحدث له أي مكروه بعد ما تعرض له في قصة زواجه الأولى لم يجعلهم يعارضون أمر زواجه من الأرملة بشدة.
و مرة أخرى يصاب خالد بصدمة كانت هذه المرة أقوى من سابقتها لأنه أحب الفتاة و تعلق بها، فقد مرضت خلود مرضاً مفاجئاً و شديداً، و استمر مرضها قرابة السنة، و لم تفلح محاولات الطب في إخراجها مما هي فيه.
أخيراًً أسلمت خلود روحها إلى بارئها، و نزف خالد الآلام و الجراح من جديد، كان ألمه هذه المرة أشد بكثير من المرة السابقة فهو يعيش الجرح القديم في الجديد.
فتداعت صحته كثيراً، و أصيب بانهيار عصبي لم يتوقع أحد أن يخرج منه سليماً و لكن و بمشيئة الله سبحانه و تعالى تماثل للشفاء و عاد إلى الحياة الطبيعية بالتدريج.
و ما أن أصبح عمره 25 سنه أي بعد عام من وفاة خلود إلا و قد أصبحت آثار الجراح تتلاشى من محياه و لكنها لم تفارق خلجه و سريرته أبداً. و كانت عيناه و لا تزال تنقل لمن ينظر بها مآسي كثيرة تخفيها ابتسامته التي لا يمكن لمن يرها من أول وهلة أن يترجم ما تنقله من معاني لناظرها.
و مرة سنة أخرى كانت هذه السنة بمثابة الحرب التي خاضها مع أهله و المقربين منه لجعله يحيد عن قراره الذي اتخذه بعدم التفكير في الزواج نهائياً.
و لكن و كما نعرف جميعاً أننا لا نملك الخيار في ما يحدث لنا و لا نعلم أين تختبئ أقدارنا.
فبعد مرور هذه السنة، حدث له أمر غريب جداً، أمرُ أعاد ترتيبه و تكوينه من جديد، حدث أعاده إلى الحياة من جديد، و ألغى جميع الأفكار التي كانت في رأسه.
لقد أحب من جديد و لكنه هذه المرة أحب بمعاناة الماضي و بأمل المستقبل، أحب فتاةً لم تملك سوى أن تعشقه لما وجدت فيه من ضالتها، فهو مثال الشاب الخلوق المتميز الهادئ الحنون، و قد أجمع كل من يعرفه على أنه رجل حنون بشكل يجعل الكل يقدره و يحترمه لعاطفته التي قلما تجدها في
رجل.
كانت سعادة الجميع من حوله لا توصف أنه تغير و عاد إلى ما كان عليه قبل 6 سنوات.
لم يسمح للوقت أن يسرق منه هذه السعادة فتزوج سريعاً بمن أحبها، لقد تزوج أخيراً بعد محاولتين لم يكتب لهما النجاح، محاولتين قطعت أوصال
ه إرباً، و لكنها بدأت الآن في النمو من جديد.
سعادة لا توصف تلك التي عاش بها خالد مع حبيبته و زوجته عهد التي نجحت في أن تنسيه كل ما مر به في حياته من أسى.
و ما هي إلى شهور و عهد تخطي الخطوة الأولى لتكون أماً، فهي الآن حامل.
لم يستطع خالد تمالك نفسه من الفرحة، الفرحة التي لم يعشها منذ زمن أصبحت الآن رفيقه أينما وطأت قدماه.
و لكن هذه الفرحة لم تدم طويلاً فعهد أصيبت بمرض غريب و هي لا تزال حامل، و هذا أثر كثيراً على الجنينـ لأن مرضها كان في الدم.
مرت الأيام و وضعت عهد فتاة تأخذ العقل بجمالها، و لكنها كانت مصابة بعيب خلقي في ال
.
بدء خالد رحلة جديدة مع العناء فزوجته مريضة و ابنته أيضاً، بدء رحلة العلاج معهما و طالت الرحلة ليس من الناحية الزمنية و لكن من هول ما رآه خلالها، فحالتهما تزداد سوءاً مع الأيام و لم يبق مركزاً طبياً يذكر بتقدمه و مزايا خدمته في أي مكان في العالم إلا وزاره.
تحمل من الديون ما يعجز عنه قوم مجتمعون و باع كل ما يملك في سبيل علاجهما، و لكن هذه المرة كانت الضربة أقوى، هذه المرة كانت الصدمة أشد و أوجع من المرات السابقة.
فبعد عملية جراحية قاربت من العشر ساعات وصفت بالناجحة، خرجت الفتاة إلى غرفتها و حين أفاقت من آثار البنج كان أبوها بجانبها ينتظر أن يرى عينيها تنظران، فنظرت إليه و عرف أنها ترغب في أن تكون بين يديه فأخذها إلى حضنه و كان عمرها حينها سنتين تقريباً، ضمها إلى حضنه واستعاد شريط الماضي أمامه، و من ثم أمسك بها بكلتا يديه و وضعها على صدره و نظر إليها رأت بعينيه دمعاً فسألته، و لم يجبها فقالت له بلهجتها الطفولية : "بابا لا تبكي أنا أحبك يا بابا".
و لم تكمل كلماتها حتى أسلمت روحها فغسلت دموعه جسدها النحيل الطاهر.
كان كمن سلت روحه و هو يراها تغادر جسده و هو يرى ابنته جثةً بين يديه.
أصبح الآن همه الأكبر كيف ينقل الخبر إلى أمها التي خرجت توها من عملية زراعة كلية و لا تزال متعبة من آثار العملية و منهكة القوى.
حمل الألم وحده، و بعد أسبوع ذهب إلى زيارة زوجته في المستشفى، و زيارته هذا اليوم لم تكن كالأيام التي سبقته فقد أخذ العزم على أن يخبرها بأن ابنتها قد توفت، دخل إلى غرفتها و إذا بها تأن من شدة الألم، فهرع إلى الممرضات اللائي استدعين الطبيب فوراً حين دخل الطبيب كانت عهد تضع رأسها على كتف خالد و يداها ممسكتان بيداه بقوة و هي تسأله عن ملاك و لكنه لم يستطع إخبارها وهي في هذه الحالة، و بعد أن هدأ من روعها طلبت منه أن يرعى ابنتها و يحافظ عليها باسم الحب الذي بينهما، و كررت ذلك عليه حتى أخذت منه وعداً بذلك، فهل تتخيلون حجم الموقف الذي كان فيه خالد؟؟؟؟؟
و ما هي إلا لحظات حتى فارقت عهد الحياة و هي في أحضان خالد الذي شعر بأنه يموت للمرة الألف، فهو للمرة الثانية يرى عينين أحبها و أحبتاه تودعانه إلى الأبد.
بكى و بكى كثيراً، حتى أغمى عليه و دخل المستشفى و طالت فترة بقاءه هناك، و لم يكن أحداً من أهله يتوقع خروجه حياً من هناك، فقد وقف الأطباء حيارى أمام حالته التي لم تستجب إلى أيٍ من العلاجات و المحاولات التي قاموا بها.
و لكن و مع إقرار الجميع برقة عواطفه و رهافة حسه، إلا أنه كان يملك رباطة جأش و شدة بأس لا يتحلى بها إلا الفرسان القلائل، و كانت هذه المزايا ما جعلت منه شخصاً قريباً إلى ال
محبوباً من غالبية من يعرفه، قوياً في المواقف التي يمر بها بالرغم من هولها.
فقد تمكن من تعدي هذه الصدمة القوية و التي كانت أقوى بكثير من سابقتيها، حيث كانت الأولى و حسب تعبيره، خطبة تقليدية لم يعرف الفتاة فيها بعد و لم يرتبط بها. و الثانية كان قد أحب الفتاة و لكنه لم يعاشرها فالمصاب أهون بعض الشئ، أما الثالثة فقد أحبها و عشقها و عاش معها فترة من الزمن و أنجبت له فتاةً فالوضع هنا مختلف تماماً عن المرتين السابقتين